في دراسته عن العلمانية والدين يقول القس الألماني جوتفرايد كونزلن-عالم الإجتماع وأستاذ اللاهوت الإنجيلي والأخلاقيات الإجتماعية بجامعة القوات المسلحة بميونخ-:إن العلمانية تعني الفصل التام والنهائي بين المعتقدات الدينية والحقوق المدنية، وسيادة مبدأ: دين بلا سياسة، وسياسة بلا دين.
ثم يتحدث عن صنيع العلمانية بالحياة الدينية في أوربا، وكيف حولت معتقدات المسيحية إلى مفاهيم دنيوية، وقدمت الحداثة بإعتبارها دينًا دنيويًّا، قام على العقل والعلم، بدلاً من الدين الإلهي، ففقدت المسيحية أهميتها فقدانًا كاملاً، وزالت أهمية الدين كسلطة عامة تضفي الشرعية على القانون والنظام والسياسة والتربية والتعليم، بل وأسلوب الحياة الخاص للسواد الأعظم من الناس.
ثم تحدث هذا القس عالم الإجتماع عن حال الحداثة التي أحلتها العلمانية محل الدين الإلهي، وكيف عجزت هذه الحداثة عن الإجابة على أسئلة الإنسان التي كان يجيب عليها الدين، فدخلت هي الأخرى في أزمة، بعد أن أصابت المسيحية بالإعياء، ففقد الإنسان -في الغرب العلماني- النجم الذي كان يهديه.. نجم الدين ونجم الحداثة معًا! وأصبحت القناعات العقلية مفتقرة إلى اليقين، بعد أن ضاعت طمأنينة الإيمان الديني، الأمر الذي أفرز إنسانًا ذا بُعد واحد، لا يدري شيئًا ما وراء ظاهر الحياة الدنيا، فأصبح الخبراء بلا روح، والعلماء بلا قلوب.
ثم جاءت فلسفة ما بعد الحداثة، ففككت أنساق الحداثة، الأمر الذي قذف بالإنسان الأوربي إلى هاوية العدمية والفوضوية واللاأدرية.
ثم تحدث هذا القس الألماني عن الفراغ الذي خلفه تراجع المسيحية -بسبب العلمانية- وكيف أن الإنسان الأوربي قد أخذ يبحث عن إجابات على أسئلته لدى العقائد الأخرى، التي أخذت تتمدد في هذا الفراغ -من التنجيم- إلى عبادة القوى الخفية والخارقة.. إلى الإعتقاد بالأشباح وطقوس الهنود الحمر.. إلى روحانيات الديانات الآسيوية.. وحتى الإسلام، الذي أخذ يحقق نجاحًا متزايدًا في المجتمعات الغربية.
هكذا صوَّر القس الألماني عالم الاجتماع الواقع الذي صنعته العلمانية بالمجتمعات الأوربية والإنسان الغربي.. وذلك عندما جعلت الحداثة دينًا طبيعيًّا، أحلته محل الدين الإلهي.. فهمشت المسيحية، وأصابتها بالإعياء.. ثم عجزت هذه الحداثة عن الإجابة على الأسئلة الطبيعية والدائمة والنهائية للإنسان الأوربي، الذي أصبح خبراؤه بلا روح، وعلماؤه بلا قلوب!.. فأخذ هذا الإنسان يبحث عن الإجابات -التي تحقق له الطمأنينة- لروح المسيحية، ولدى العقائد الأخرى، التي أخذت تتمدد في الفراغ الديني الأوربي.
وإذا كانت لغة الأرقام هي أصدق اللغات، فإن أرقام الواقع المسيحي في أوربا تعلن عن صدق هذا التحليل الذي قدمه هذا القس الألماني عالم الاجتماع، ويكفي أن نشير إلى:
ـ أن الذين يؤمنون بوجود إله في أوربا -حتى ولو لم يعبدوه- هم أقل من 14% من الأوربيين.
ـ وأن في أوربا -حيث أعلى مستويات المعيشة- أعلى نسبة من القلق والإنتحار في العالم.
ـ وأن الذين يذهبون إلى القداس -مرة في الأسبوع- في فرنسا، وهي أكبر بلاد الكاثوليكية والتي يسمونها بنت الكاثوليكية هم أقل من 5% من السكان أي أقل من ثلاثة ملايين، أي نصف المسلمين الذين يصلون الجمعة في فرنسا.
ـ وأن 70% من كاثوليك روما -حيث الفاتيكان- يوافقون على ممارسة الجنس قبل الزواج!.. وفي إستطلاع أجرته مؤسسة جالوب 2005م ظهر أن 74% من الكاثوليك يتصرفون -في المسائل الأخلاقية- على عكس تعاليم الكنيسة، ولا يلتزم بتعاليم الكنيسة سوى 20% فقط.
ـ وفي ألمانيا توقف القداس في ثلث كنائس إبرشية أيسن، بسبب قلة الزوار.
وهناك عشرة آلاف كنيسة مرشحة للإغلاق والبيع لأغراض أخرى.
وتفقد الكنائس الألمانية -الإنجيلية والكاثوليكية- سنويًّا أكثر من مائة ألف من أبنائها.
وبسبب تحلل الأسرة، أصبحت ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا معرضة للإنقراض، إذ تزيد نسبة الوفيات فيها عن نسبة المواليد! بينما المسلمون في ألمانيا -وهم 3% من السكان- تبلغ مواليدهم نسبة 10% من المواليد الألمان.
ـ وفي انجلترا لا يحضر القداس الأسبوعي سوى مليون فقط. ولقد صنفت 10% من كنائسها بإعتبارها زائدة عن الحاجة، ومعروضة للبيع مطاعم وملاهى، وحتى علب ليل.
ولقد غنت مادونا في كنيسة إيطالية تاريخية، بعد أن تحولت إلى مطعم، وتحول المذبح إلى فرن للبيتزا.
وفي جمهورية التشيك عشرة آلاف كنيسة، نصفها معروض للبيع! وبعض الكنائس التي بيعت تحول إلى نادٍ للعراة، وموسيقى التكنو.
ـ وفي كوبنهاجن عاصمة الدنمارك، عرضت عشر كنائس للبيع، وصرح كاي بولمان -الأمين العام للكنائس في الدنمارك-: أنه إذا لم تستعمل الكنيسة للعبادة، فالأجدر أن تستعمل كإسطبل للخنازير! في إشارة إلى رفض بيعها، كي تصبح مساجد للمسلمين الدنماركيين.
ـ وفي أمريكا، انخفض حضور قداس الأحد الكاثوليكي بنسبة 40% عن خمسينيات القرن العشرين! و70% من كاثوليك أمريكا يطلبون السماح بإستخدام موانع الحمل، على خلاف موقف الكنيسة وتعليماتها! وهناك أكثر من ثلاثة آلاف أسقف وقسيس يواجهون المحاكمات بتهم الشذوذ الجنسي مع الأطفال.
ولقد أوجز الكاردينال الإنجليزي كوربك ميرفي رئيس الكنيسة الكاثوليكية في إنجلترا وويلز، هذا الواقع الديني الذي صنعته العلمانية فقال: إن المسيحية أوشكت على الانحسار، وإن الدين لم يعد مؤثرًا في حياة الناس.
أما بابا الفاتيكان بنديكتوس السادس عشر فلقد أعلن عن مخاوفه من إنقراض المسيحيين الأوربيين، ومن حلول الهجرات المسلمة -العربية والإفريقية- محلهم، ومن أن تصبح أوربا جزءًا من دار الإسلام في القرن الحادي والعشرين.
تلك هي الثمرات المرة لتجرع أوربا كأس العلمانية المسمومة.. تلك الكأس التي يريد الغرب وعملاؤه العلمانيون في بلادنا أن يتجرعها المسلمون في بلاد الإسلام.
الكاتب: د. محمد عمارة.
المصدر: موقع ياله من دين.